ثورة الفن


الحلقة السادسة: ثورة الفن

عمل على إنتاج الحلقة كل من:

بحث ومقابلات: مي أبو صالح، ومحمد عوض مصطفى.

تقديم: عزة محمد وزينب عثمان.

تحرير: محمد عوض مصطفى، داليا عبد الإله، وحسام هلالي مع مشاركة كل من زينب عثمان وعزة محمد.

موسيقى: الزين ستوديو.

ميكساج: طارق سليمان.

إدارة: زينب عثمان.

تم التسجيل باستديو Rift Digital Lab

تصميم بوستر: عزة محمد

يمكن الاطلاع على كل اللوحات المذكورة في الحلقة في اخر الصفحة


تشكُّل الذاكرة الفنية السودانية

الكاتب: رند العربي

المدقق: ريان خليل

يستعرض هذا المقال المساحات الفنية السودانية بأشكالها المتعدِّدة وإسقاطاتها على مساحاتنا الذهنية فيما يتعلق بماهية، أنواع ومعاني الفنون. حيث يتطرَّق المقال إلى غياب المساحة الثابتة والشاملة لمختلف أنواع الفن السوداني، وأثرها على ذاكرتنا الجماعية المحلية. فهو استكشاف مِساحي لمكان الفن الفعلي وموقعه المجازي في سوداننا الماضي والحاضر.

الذاكرة كمتحف متنقِّل: استكشاف الذاكرة الفنية المحلية

غياب عامل التوثيق والمصادر المتاحة عن تاريخ الفن السوداني يجعل من سيرته سرداً يتردَّد خلاله على المسامع أسماء وسِيَر فنانين كثر، بينما تحتجب أعمالهم عن البصر. فغالباً ما تتَّسِم مهمّة التعرُّف على تاريخ الفن السوداني الحديث والمعاصر بالمجهودات البحثية الشخصية، وتسبق عملية قراءة النصوص والآراء مشاهدة الأعمال الفنية على أرض الواقع، وبرغم تعدُّد أسباب هذه المسألة، إلا أنه يستوجب التطرق على أحد أهم التَبِعات الناتجة من هذا الغياب.

إن للفجوة القائمة بين عملية ممارسة الفنون وبين إمكانية رؤية الأعمال الفنية على أرض الواقع؛ انطباعاً جذرياً وأثراً على ماهية الفن ومدى ارتباطِه بالمجتمع المحلي كليًّا. حيث يؤثِّر غياب العلاقة المساحية والاجتماعية العامّة والدائمة بين الفنَّان والمجتمع التي تمكِّنُه من استعراض فنِّه وتبادُل الآراء والأفكار والتحليلات، مؤدِّياً بذلك لضعف ارتباط المجتمع بالفن وإمكانية تغَلْغُلِه في مختَلَف مناحي الحياة اليومية.

تشكَّلَت ساحة الماضي الأدبية من عدة نُقَّاد ومفكِّرين أثْرَوا نطاق الحوار والنقد الفني، وانتقلَتْ أحاديثهم من النطاق الشفهي إلى النطاق الكتابي عندما صدَرَت عدة مطبوعات ومؤلفات ثقافية منذ منتصف القرن الماضي، تمحورت مواضيعها حول النقد الأدبي والثقافي والفني، والتحاوُر حول مختَلَف النقاشات، وإجراء لقاءات مع الفنانين تُبْقي الوصل ما بين القاريء والفنَّان (مجلة الخرطوم ومجلة الثقافة السودانية كمثال). مكوِّنين بذلك مساحة فكرية متنقِّلة وعابرة للحدود المكانية، متخلِّلَةً أذهان العديد من قُرّائِها وحاضرة كسجل موثِّق لهذه الأحاديث. خفَتَتْ أصوات هذا الحوار بعد ذلك لعدة أسباب سياسية رقابية واقتصادية، مما أدى إلى تضاؤل المساحة التحريرية الحرة وتلاشيها إلى حين آخر.

مجلة الخرطوم، العدد ١٨ -١٩٩٥. مجلة الثقافة السودانية، العدد ١٧ -١٩٨١, مكتبة ستوديو ايربان الخاصة

شَهِدَتْ الساحة الفنية في العقود الأخيرة تغيُّرات عدَّة فيما يخص أنواع الفنون والمفاهيم التي تحتويها الأعمال المنتجة، خاصة مع ظهور المصادر المعرفية الإلكترونية التي بدورها أتاحت للفنان الاطلاع على كمّ معرفي هائل ومفتوح المصدر، مما أَحدَثَ ثورةً غيَّرت توجُّه العديد، وألقَتْ بظلالها على نظرة الشارع العام للفن وماهيته وأهميته. إلا أن حق الممارسة ما زال محكوماً عند البعض ما بين الاعتقاد بأنَّ إنتاج العمل الفنِّي يحتاج إلى وجود هبة إلهية تستحضر نفسها وتكتفي ذاتياً، وهي التي تُوحِي للفنان وتمدُّه بكل القدرات الفكرية والتطبيقية، وما بين حصر مفهوم الممارسة الفنية على نموذج نخبوي ذي نطاق محدود ومستند على مفاهيم منفصلة عن الثقافة القومية والمحلية.

تقف الساحة الفنية الحالية عند مفترق طُرُق فيما يتعلَّق بالفنون الحرفية والمِهَن اليدوية التقليدية كصناعة الفخَّار والنجارة والحدادة. فما بين اختزالها ضمن الفنون الجميلة وإضافتها عند التعريف بالفنون التشكيلية أو اعتبارها دون مكانتها الفنية المستحقة، تكمن خطورة هذه التسميات المحددة كونها سبباً في عرقلة وتعطيل عملية الابتكار وازدهار الفنون بأنواعها واختلاق وسائل وسبل ورموز فنية جديدة تتعدَّى المسمّيات والمصطلحات ”النقدية“ المعروفة.

مفاوضات الساسة في ساحة المعرض

لسياسات الدولة تاريخ ممتد من التدخُّلات في مسار الفنون، تارةً في مظهر داعم لتسيير دعاياتها ومناهجها، وتارةً أخرى لحجب وقمع الجهود الفنية كمحاولات لكبت الرأي العام وحركة الشارع.

تم استغلال ساحة المعرض الفني من قِبَل الدولة الاستعمارية كأداة للدعاية السياسية، وقد استمرت سُلطات ما بعد الاستقلال تبنِّي هذا النهج، حيث قامت المنظَّمات السياسية، الحزب الشيوعي السوداني كمثال، باستخدام المعارض الفنية كمدخل ومحفز للأفراد للانضمام إلى العمل السياسي.

خلال الأعوام المستقرة سياسياً (١٩٦٩-٨٥) تمكَّنَ الرئيس النميري من إقامة مؤسسات ثقافية معزِّزة لفكرة المعرض كمساحة تمثيل استثنائية. تلَتْها تجارب قوى سياسية كحزب الأمة الذي بدوره استخدم المعرض الفني لعكس صورة حديثة وجاذِبة لمشروعه السياسي. تؤثِّر المعارض الفنية ذات التوجه السياسي بالأنشطة السياسية والفنية على حدٍ سواء، فيتقدم المزيد من الفنانين بفرض توجّههم السياسي على أعمالهم، في محاولة للتماشي مع الوضع الراهن، مما يغيِّر من مسارهم واتجاههم الفني. 1

على الرغم من تبدُّل الأفراد على كرسي الحكم وتغيُّر الأنظمة الحاكمة، ظلَّت الرقابة السياسية ملقية بثقلها على كاهل الفنان، تَحُول بينه وبين إظهار تعبيره الأصدق لنفسه وللعامة. وتُعَد عملية الرقابة الفكرية موروث استعماري تبَنَّتْهُ الحكومات التي تلت الاستقلال بمنهج شمولي يمر بدرجات متفاوتة من المراقبة، والتي قامت بدورها بعزل وحجب أفكار الفنان التي لا تتماشى مع أجندة الدولة السياسية والفكرية عن الجمهور.

مذكرات السجن، ابراهيم الصلحي، حبر على ورق ١٩٧٦، ملكية المتحف الحديث بنيويورك.

ومن بين الأمثلة العدّة، ما تزال تجربة الفنان إبراهيم الصلحي حدثاً يستوجب علينا ذكره، فبالرغم من إسهاماته في تشكيل مدرسة فكرية والعمل كمدرِّس في الكلية وتولِّي مناصب ذات سلطة إلا أنه لم ينجُ من زنزانات جعفر النميري السياسية. فلم تشفع له إدارة مصلحة الثقافة بوزارة الإعلام ولا إدارة المجلس القومي لرعاية الآداب والفنون من فترة حبس مدتها ستة أشهر ويومان قضاها في سجن كوبر، بالإضافة إلى إقامة جبرية تلت خروجه من السجن بسبب مزاعم لا دليل لها عن مشاركته في تدبير انقلاب على الحكومة الحالية آنذاك عام ١٩٧٥. مؤثِّرة تباعاً على أسلوبه الفني ومساره العملي وعاملاً أساسياً في اتخاذ قراره بالهجرة. 2

أما كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، فلم يسْلَم أفرادها من مضايقات الأنظمة السابقة التي تنوَّعت من معاداة لفصل تام من الكلية. نقلاً عن الفنان عبد الرحمن عبد الله الملقب ب”شنقل”، وهو فنان ومدرِّس تشكيلي في معهد الفنون الجميلة، تطرَّق عضو اتحاد التشكيليين السودانيين عبد الرحمن إلى تجربته التعليمية التي حرص من خلالها على إلمام طلاب النحت بالتاريخ السوداني ليكون قاعدة لهم ليتمكنوا من إنتاج فن معاصر أصيل بالرغم من الفجوات غير الموثَّقة التي تتخلَّل تاريخنا بداية بالممالك المسيحية وانتهاءً بدولة سِنّار. حيث كانت ممارسة النحت بالتحديد مهمة لارتباط النحت بالحضارة المروية فكان جزءاً أساسياً من ثقافتهم، واندثرت ثقافة النحت عند دخول الإسلام لاعتبارها ممارسة لا تخدم العقيدة الإسلامية.

يحكي أستاذ عبد الرحمن عن جهودهم الأكاديمية والشخصية لإبقاء فن النحت على قيد الحياة بالرغم من عداءات الأنظمة الحاكمة آنذاك لفنون النحت والتي لا تعكس بالضرورة رؤى و آراء الشعب، مسترجِعاً ذكرى إحدى الجداريات التي عكفوا عليها والتي لفَتَتْ انتباه الشارع العام بشكل إيجابي، حيث توقفت السيارات وقاد الفضول الركاب للنزول ومشاهدة تثبيت جدارية “بزيانوس” بقرب صينية الأزهري بأمدرمان، ويستدل عبد الرحمن بهذه الحادثة عن تلَهُّف الجمهور وتطلُّعِه للفن وتواجده في الساحة العامة بكل صُوَرِه سواء كانت نحتيّة أم تشكيلية، هذا التطلع والتلَهُّف الذي لم تنجح المؤسسات ورقابتها في إخماده.

هذه الرقابة شبه المطلقة للأفراد والمؤسَّسَات والكليات الفنية لا تعني نجاح الأنظمة بفرض أيدولوجياتها على الفنان، بل يرجِّح أيضاً أ. عبد الرحمن دور المعاداة الحكومية في صقل إيمان طلاب الكلية بقضيتهم وإصرارهم على الإنتاج الفني رغم تدهور الإمكانات الأكاديمية وضغط الرقابة وتيارات الفكر المضادة لأُسُسِهِم الفنية.

ابراهيـم الصلحـي مـع طلبة وأساتذة كليـة الفنـون الجميلـة، الخرطـوم، أواسط الستينات. ملكيـة أرشـيف ابراهيـم الصلحـي، لندن

ذوبان الثلج والفن المغاير

من الجليّ أن فنون الرسم والتلوين هما الأحبّ لذائقة الجمهور السوداني، وإن ظلَّت لوحات الفن التشكيلي تغمر ساحة الفن المحلي كالوسيلة الفنية الأكثر شيوعاً، يحتلّ عامل جمالية العمل البصرية الأولوية للكثير من حيث الماهية والاستحقاقية لاعتبار العمل الفني في حد ذاته. وعلى الرغم من ذلك، يحفل تاريخ الفنون السودانية بالسُبُل المغايرة التي ابتكرها بعض الفنانين واستخدموها كوسيلة للتعبير والتعبئة والرفض.

تُعَد تجربة الفنان محمد شداد هي الأمثل للتحليل فيما يتعلّق بتفاعل واستنكار الجمهور والمحيط الفني للأعمال والمفاهيم الغير التقليدية. “معرض الثلج” عبارة ثبَتَتْ في ذاكرة المهتمِّين بالفن في السودان كعلامة للفن التركيبي المبكّر الذي اعتمده الفنان محمد شداد في منتصف السبعينيات مستعرِضاً قِطَع من الثلج مُحاطة بأكياس بلاستيكية ملأى بالمياه الملوّنة. ومثل هذا العمل الفني استكشاف مادِّي لسياقات المدرسة الكريستالية الفكرية ومفاهيمها كالشفافية والازدواجية. 3

ويمكن اعتبار هذا المعرض من ضمن الأحداث المضادة للأنظمة والمؤسسات بأنواعها، وهو عكس ما كانت تنظِّمُه الساحة الفنية آنذاك من معارض فنية مكرَّسة للمنظمات الدبلوماسية.

“معرض الثلج” يمثِّل، في مسار محمد شداد الفني، تتويجاً لسلسلة من الحركات الجمالية التي ابتدرها محمد شداد وهو طالب في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية. مبادرات محمد شداد التي يجمعها سعي منهجي متصل، فحواه النقد السياسي والأخلاقي من خلال الحركة الجمالية. فعندما كان طالباً في سنته الأولى بكلية الفنون بالخرطوم، أقام معرضه الشخصي الأول “معرض الإنسان الجالس” ومنذ الساعة الأولى تزاحَمَ الطلاب والأساتذة والعاملين بالمعهد وتجمهر طلاب من الأقسام الهندسية والتجارية داخل الصالة وعلى النوافذ لمشاهدة هذا الحدث العجيب. في استديو عُرِف باستديو ”تاريخ“ بالكلية، و في عمق الاستديو كانت هناك منصة عليها كرسي، أجلس عليه محمد شداد “جيمس”، موديل قسم الرسم آنذاك عاري الصدر، وفوق رأسه بعدة سنتيمترات تدلت قطعة لحم كبيرة، كما كانت هناك أرغفة طازجة معروضة في الصالة. على حيطان الصالة عُلِّقَت لوحات زيتية و مائيات و رسومات بالقلم لمحمد شداد، وعلى الأرض ثلاثة أو أربعة لوحات زيتية صغيرة استعارها محمد شداد من بعض الطلاب منهم لوحات لدار السلام عبد الرحيم. بالقُرب من اللوحات كانت هناك بطاقة مكتوب عليها بخط واضح “ثمن اللوحة خمسة قُبلات”. طبعاً لم يجرؤ أحد على دفع الثمن الفادح لشراء المعروضات، لكن بؤرة الاستفزاز تركَّزَت على حديث محمد شداد الذي انطلق يخطب في الجمع مبشِّراً بـ”تحرير الغرائز” كخطوة ضرورية لتحرير الإنسان، و خلاص الإنسانية إنما يكون في التخلُّص من كل عقابيل الكبت المتوارثة عبر القرون بفعل الأيديولوجيات والنصوص المقدَّسة والتقاليد البالية التي تغرِّب الإنسان عن جوهره “ككائن مجبول على الهروب من الألم نحو اللذة”.4

استفزَّ هذا الحدث مجتمع الكلية الصغير حتى أنّ جماعة من الطلاب عقدوا محكمة رمزية لمحاكمة محمد شداد فأدانوه لنشوزه وحكموا عليه بعقوبة رمزية مقدارها عشرة جلدات. 5

ماء ملون، عمل لمجموعة الكريستاليون (يرجح من عام ١٩٧٤ أو ١٩٧٨). تم إعادة صنعه من قبل صلاح حسن عبد الله، مساهمات في الأدب التشكيلي ١٩٧٤-٨٦ (الخرطوم: مؤسسة أروقة للثقافة والعلم، ٢٠٠٥).
كمالا إبراهيم إسحاق ، أشخاص في مكعبات زجاجية ، ١٩٨٤. مؤسسة الشارقة للفنون ، الصورة ملكية مؤسسة الشارقة للفنون. تصوير: شانافاز جمال الدين.

ومن الأمثلة الأخرى التي انتفضت على تعريفات ومسمّيات الفن السوداني هو بيان المدرسة الكريستالية، فكما كانت بداية المدرسة الخرطومية6 هي نتاجاً لغياب اللوحة التشكيلية، أشعلت شرارة المدرسة الكريستالية لوحة كبيرة بطول ٣ أمتار ونصف، رسَمَتْها الفنانة كمالا إسحق، تُصوِّر ١٥ كرة كريستالية، فيها تدرُّجات لونيّة، بعنوان “ندوة في مكعبات زجاجية” تمثِّل ما يشبه علاقة الحياة بين الإنسان والنبات.

إنَّ الحقيقة نسبية وإطلاق الطبيعة رهين بالإنسان كأطروحة محدودة والصراع بين الإنسان والطبيعة يسير دائماً لإيجاد الصِّيَغ والمقولات التي تجعل العكس أي الإنسان المطلق تجاه المؤسسات والصيغ الطبيعية المحدودة والتي هي من صنع الإنسان نفسه. فإذا كانت الجدلية فى الفكر الكلاسيكي الحديث يُعبَّر عنها بـ( ليست هنالك ظاهرة معزولة )، ( وأن معرفة الإنسان بالمادة هى معرفته بأشكال حركة المادة ) .. فإننا وفق فكرة الكريستالة لا نتوانى ونقول أنَّ الجدلية بديل عن الطبيعة نفسها7

نُشِر البيان الكريستالي في الواحد والعشرين من يناير عام ١٩٧٦، مؤجِّجاً النقاشات بِلُغَته الفلسفية والنقدية فيما يخص أخذ التراث بعين الاعتبار الذي يتعلق بالفنون.8 فأتى بمحاولة للتمييز عن مسار مدرسة الخرطوم كما يصفه د. صلاح محمد حسن، الذي يشير إلى أن جُلّ اهتمام الكريستاليين يركِّز في العمل على وضع فكرتيْ “التحوُّل” و”الصيرورة” في مقدمة اهتمام الفن التشكيلي كقوى جوهرية بدلاً عن سيادة “السودانوية” التي تركِّز على أيديولوجيا “العودة إلى الأصل”، والتي تفرَّدَت بها مدرسة الخرطوم على مستوى الأسلوب والجماليات.

توثيق لعمل الثلج الأدائي للفنان محمد حامد شداد ١٩٧٤-٧٥ بمعرض أبو جنزير، وزارة الثقافة، الخرطوم، تم نشرها أولاً في مقال حسن محمد صالح.

انتقالاً من العام ١٩٧٦ إلى العام ٢٠١٩، حيث أدى اعتصام المتظاهرين السِلمِيِّين المطالِبين بالعدالة في ساحة القيادة العامة بالخرطوم إلى أكبر أُطروحة فنية شَهِدَها الشعب السوداني منذ عقود.

التقط العديد من الفنانين أدواتهم متّجهين إلى ساحة القيادة كمركزهم الفني الجديد، واكتظّت المساحة ذات العشرة كيلومترات مربعة بمعارض تاريخية وثقافية وأعمال فنية مختلفة، كَسَرَت الساحة الحواجز التي عرقلت أو حالت بين الفنان والجمهور وبين نظرية الفن وممارسته، واستبدلتها بمباشرة العملية الفنية دون الاعتماد على طُرُق العرض التقليدية والشائعة، ممثِّلةً بذلك معْبَراً مهماً ومُرَحِّباً تَصُب فيه جميع أنواع الفنون التعبيرية والمفاهيمية.

تشكَّلَت ساحة القيادة من أكثر المجموعات تنوُّعاً من أعراق المجتمع السوداني، لذا كان هنالك تنوُّع فني. وقد تجلّى هذا التنوُّع على أنواع الفنون الجميلة والاستعراضية والتنصيبية. فانعكس كسر القيود التعبيرية على التدفُّق الإبداعي، وعلى تقبُّل وانفتاح الجمهور على جميع أنواع الأعمال المعروضة.

أدَّى ذلك الحدث إلى تحوُّل مساحي كبير في الساحة الفنية السودانية، وظهور الشكل الجديد لساحة القيادة كمعمل فني مكون من شتى آراء ورؤى الشعب. فانتعشت بذلك الجدارية السودانية واحتوت على شعارات ومطالب سياسية عن مفهوم الأعمال الفنية، أمثَلُها جدارية المطالبة بالقصاص لأفراد النظام السابق التي تتضمن قائمة بأسمائهم وجدارية الفنانة آلاء ساتر المتمحوِرة حول دور النساء في قيادة الثورة وأهمية تمركزهم لإبقاء شعلة المقاومة متّقِدة.

تتجلّى قوة وتأثير الفنون التي احتضَنَتْها ساحة القيادة في انصهارها داخل ذاكرة المواطن السوداني وعقله الباطن، مفسِحةً المجال لتكوُّن فضاءٍ فنيٍ جديد في الذاكرة الجماعية. ورغم قيام المليشيات العسكرية بإتلاف الأعمال الفنية ومسح معظم الجداريات، إلا أن قدرة التوثيق البصري ومحاوطة الأعمال الفنية لمنطقة الاعتصام تفوق قدرة الحكومات على طمس الحركة الفنية الثورية ومحوها من العقل الباطن وذاكرة الشعوب.

الفنانة آلاءساتر، تقف أمام واحدة من جدارياتها الفنية في منطقة القيادة العامة، من تصوير وائلجزولي، عام 2019م

ديمومة المساحة الفنية وأثرها التراكمي

يظلّ الهدف المنشود هو نقل روح ساحة اعتصام القيادة وجوهرها إلى مساحات فنية شاملة لجميع أطياف المجتمع وتعزم على إتاحة جميع المصادر الثقافية والمعرفية للعامة، بهدف هدم العوائق السياسية والمجتمعية الماثلة بين الفرد والمجتمع، ومحاربة النظم النخبوية لإنتاج واستعراض الفنون.

ولكن تظل أغلب التحديات التي تواجه إنشاء متحف أو صرح جديد هي الموارد المطلوبة لوجود صرح ثقافي شامل، إن كانت مادية كتكاليف الإنشاء والمحافظة على البنيان ودفع النفقات الوظيفية، أم كانت موارد معرفية كالممارسة النظرية وتحليل وتفكيك ماهية وتاريخ الفن والأعمال الفنية الموجودة، وتقييم المعارض وإقامة البرامج الفنية العامة التي تشمل مواضيعها مختَلَف محاور التاريخ الفني والثقافي واهتمامات الزائر السوداني.

يجدر بالذكر هنا أن تاريخ المعارض والمساحة الفنية في السودان يزخر بالكثير من المساحات المستقلّة والمعارض التجارية التي تحتضن أعمال مفاهيمية متعددة. ورغم ذلك، يظل غياب الصرح الفني الدائم على أرض الواقع مشكِّلاً معضلة بصرية وثقافية للمُشاهد السوداني الذي ظل يسمع عن أخبار نيْل عدد من الفنانين الجوائز من دون إتاحة الفرصة للاطِّلاع على أعمالهم. مما جعل هذا الأمر من العالم الافتراضي ساحة للعرض والبحث، و تمكَّن العديد بمجهودات فردية مشاركة معلوماتهم ومصادرهم الثقافية، ولكن تظلّ الحاجة الملحَّة إلى وجود متحف فنِّي يشمل الأعمال المختلفة التي ساهمت في تشكيل الحركة الفنية السودانية، من الحرص على تبيين العوامل السياسية والاقتصادية والعرقية التي أثّرت على مسيرة الفن، وإظهار الفنون التي انعكس تأثيرها على تلك العوامل.

ومن الضروري الاطّلاع على تجارب الدول الأفريقية المجاورة، فقد مرّت بعضها بعوامل مختلفة والتي أضحت عائقاً بينها وبين الجمهور، فتكرر مشهد عدد الزيارات القليلة بالرغم من محاولات المتاحف بإشراك الجمهور المحلي من خلال برامج عامة أو معارض فنية عديدة، إلا أنها لم تفلح في جذب الجمهور المحلي، والذي يشير إلى أن المتحف يُنظَر إليه باعتباره ظاهرة نُخبوية.9

مما يقودنا إلى التساؤل عن ماهية وكيفية عملية انتقاء الفنانين والمسؤولين وعملية اختيار الأعمال الفنية بشكل يتيح للكل التواصل والتجاوب معها.

تظل من أهم المسائل الأساسية الشائكة والأكثر تعقيداً هي ماهية تحديد أو تعريف الفن (الحديث) في سياق سوداني محلي، ومن يحدِّد ويعرِّف هذا الإطار. وكيف لهذا الصرح أن ينجو من تاريخ المتاحف الاستعماري والبصمة الغربية التي طغت على مفهوم التقييم والاستعراض الفني.

ومن الجوانب الأخرى التي تعنى بالذاكرة الفنية الجماعية، هو تغلغل الفنون وممارساتها في مختَلَف السياقات الفعلية والفكرية لتكون جزءاً لا يتجزأ من التجربة الحياتية اليومية. تنوعت وتوسعت عملية الاطّلاع والتفاعل مع الأعمال الفنية، وتجاوزت مساحة المعرض التقليدية لتشمل جميع المساحات العامة. كل هذا سمح لإتاحة الفن لجميع أطياف الشعب، مما سيؤثر بدوره على مساحة الفن الذهنية في ذاكرة الجماعة. تُعَدّ المساهمة الجماعية المستمرّة على نحو دائم من الخطوات الأساسية المساهِمة في إثراء وتطوُّر المساحة الثقافية الحالية، داعمةً لتفاعل المجتمع مع الفنانين والمهتمين بالفنون وممكِّنة للتحصُّل على السُبُل المعرفية الثقافية، وسينعكس أثر تراكمية هذه المجهودات إيجاباً على الجوانب المفاهيمية والمادية للفن السوداني.

تُعتَبَر فكرة إنشاء متحف دائم للفنون معقَّدة بعض الشيء لما تحتويه من أصداء استعمارية، ولكن تظل الغاية هي ديمومة المساحة، بغضّ النظر عن الشكل والمسمى التي تتخذه. ظلت الغاية هي نفسها، وهي توفُّر جميع الأعمال الفنية بمختَلَف مفرداتها وتجلياتها، للعامة. مشكِّلةً بذلك منْفَذَاً لما سيحيكه المستقبل من فن، والحيوات المنبثقة من جراء هذا الفعل الضروري.

المراجع

1. The Party of Art: When the People Entered the Gallery. Hassan M. Musa. South Atlantic Quarterly, 109 (1): 75, 2010.

2. مذكرات السجن، ابراهيم الصلحي، حبر على ورق ١٩٧٦، ملكية المتحف الحديث

3. Prison Notebook. Ibrahim El-Salahi, 2018, Salah M. Hassan, P. 11.

4. “We Painted the Crystal, We Thought About the Crystal”—The Crystalist Manifesto (Khartoum, 1976) in Context. Anneka Lenssen. 2018.

5. لمرتكزات الفكرية و التشكيلية لمدرسة الخرطوم اسماعيل حسن. ٢٠١٧

6. “We Painted the Crystal, We Thought About the Crystal”—The Crystalist Manifesto (Khartoum, 1976) in Context. Anneka Lenssen. 2018.

7. https://www.sudanmemory.org/cms/117/

8. Modern Art in the Arab World: Primary Documents – The Crystalist Manifesto

9. https://sudaneseonline.com/msg/board/18/msg/1398707985/rn/44.html

10. Contemporary Art and the Museum: A Global Perspective,2007.


اللوحات المذكورة في الحلقة

الخرز منكرمة مصنوع من الزجاج والحجارة المصقولة والقيشاني والذهب والبرونز. عبر wildfiregames.com
الملكة اماني شاخيتو، صورت ربم إلى جانب خليفتها ، الملكة أمانيتور ، في نحت من معبد هرم أماني شاخيتو في مقبرة البجراوية الملكية، مروي
لوحة للفنان عثمان وقيع الله. عبرموقع maakom.com
لوحة بعنوان المحتوم، للفنان إبراهيم محمد الصلحي (١٩٨٤) عن ثورة مايو. عبر موقع lenbachhaus.de
لوحة لستنا بدري عن ثورة مايو، عبرصفحة ايمان شريف
يافطة طحنية الروضة، اعتصام القيادة منثورة ديسمبر، ٢٠١٩. عبرموقع الرصة
رسم بطلاء رش، لأبي الصادق
جدارية للفنانة الاء ساتر بعنوان المرا مكانا المقاومة. تصوير أحمد محمود عبر موقع themantle.com
الشهيد محجوب التاج، جدارية للفنانة أصيل دياب، عبر موقع dawnmena.org

مراجع استُخدمت في البودكاست:

1. The Party of Art: When the People Entered the Gallery. Hassan M. Musa. South Atlantic Quarterly, 109 (1): 75, 2010.

2. Prison Notebook. Ibrahim El-Salahi, 2018, Salah M. Hassan.

3. “We Painted the Crystal, We Thought About the Crystal”—The Crystalist Manifesto (Khartoum, 1976) in Context. Anneka Lenssen. 2018.The Party of Art: When the People Entered the Gallery. Hassan M. Musa. South Atlantic Quarterly, 109 (1): 75, 2010.

4. CONTEMPORARY AFRICAN ART from the SUr>AHE.SE. PERSPECTIV E, D R. RASHID DIAB. Del Documento, Los autores. Digitalizacion Realizada por ULPGC. Biblioteca Universitaria. 2006

5. ART AND THE AFRICAN WORLD: A HISTORICAL ANALYSIS OF THEIR INTERCONNECTION, KAREL ARNAUT, 1991

6. Modern Art in the Arab World: Primary Documents – The Crystalist Manifesto

7. Contemporary Art and the Museum: A Global Perspective, 2007.

8. Ibrahim El-Salahi and the Making of African and Transnational Modernism by Salah M. Hassan

9. Back to Mangu Zambiri: Art, Politics, and Identity in Northern Sudan by Mohamed Abusabib

10. فضاءات متعددة، حراكات متجددة: تحولات مفاهيمية وأسلوبية في الفنون البصرية والعمارة في السودان 1980- 2010 مقال لشامة الرشيد بابكر

11. قبضة من تراب لإبراهيم الصلحي، كتاب صادر عن منتدى دال الثقافي في العام ٢٠١٢

12. المرتكزات الفكرية والتشكيلية لمدرسة الخرطوم⁩. اسماعيل حسن. ٢٠١٧