دور الفنانين في الوضع الاجتماعي – السياسي في السودان بعد التغيير
الفنون بين رعب الانظمة ومقاومة الفنانين :
تطرقت في مقال سابق عن العلاقة بين الفنون والسلطة في السودان في عهد دولة الاسلام السياسي حيث كانت الفنون وممارستها تسبب الرعب للسلطة فجندت كل ادوات القمع لتقييد العمل الثقافي والفني في المدن السودانية خاصة التي لم تكن تتوافق معها ، في ذات السياق كان هناك فعل مقاومة معلنة وخفية من جانب الفنانين والكتاب ومحاولات التنفس تحت الماء من خلال المسام .
حاربت تلك الدولة الفنون والفنانين وشوهت صورتهم وشيطنت انتاجهم الفني حتى اثر ذلك على ذوق الجمهور المتلقي ، وصادرت الكثير من المنابر والمنصات الثقافية المختلفة ولغبقت دور الثقافة ، واستبدلت الفراغ الذي صنعه عزوف الفنانيين عن فعالياتها ومهرجاناتها ، باجسام محسوبة للنظام او على الاقل متماهية معها لممارسة الفنون المأدلجة ذات طابع سطحي وعظي وممل.
قاوم الفنانين هذه الاجواء بعدة طرق بعضهم بالهجرة وحققوا نجاحات جمة في الخارج ، وبعضهم بالعمل الدؤوب الخفي في الداخل وبعضهم بالتوقف تماماً والاكتفاء بالفرجة والنقد الصامت، استمرت هذه العلاقة بين الرعب والمقاومة طيلة الثلاثين عاما ، هذا الرعب يعود الى الاثر المباشر الذي تعتبره الحكومات خطيرا الا وهو التغيير في درجة وعي الناس سوى كان على مستوى الافراد او على مستوى المجتمعات ، لان وجود اذهان متفتحة لافراد فاعلين وناقدين للاوضاع ومن ثم وجود عقل جمعي مهتم بقضايا الحقوق والحريات ، هذا عامل مهدد للحكومات المنغلقة والشمولية.
الوضع السياسي في السودان بعد التغيير:
الوضع الاقتصادي المتأزم في السودان بعد الثورة الموروث من العهد السابق تلقي بظلال قاتمة على الوضع السياسي والاجتماعي وربما تهدد السلام الاجتماعي ايضاً ، كما لاحظنا اندلاع العنف في عدة مناطق متفرقة وايضا قضايا عدلية جارية على رموز النظام والشارع متلهف لنهاياتها التي قد تطول وتقصر، للحفاظ على هذا الوضع من الانهيار هذا يحتاج لارادة داخلية وسند اقليمي ودولي ليتجاوز السودان هذه الفترة الى بر الامان ، وانا اعتبرها تحولا انتقاليا مركباً ، من الثورة الى الدولة ومن الحرب الى السلم ومن الكبت الى فضاءات الحريات.
هذا الوضع يضيف اعباء ومسؤوليات جمة على الفنانين والمثقفين وكيف باماكنهم ابتكار ادوات وخطب مختلفة تستوعب هذه الهشاشة بلطف وتكون زراع التوازن الذي يمنع الانهيار والمرآة التي تعكس احلام وطموحات الناس وبث الامل باستشراف مستقبل آمن للجميع .
الوضع الاجتماعي في السودان بعد التغيير:
الحرية واحدة من مكتسبات التغيير التي لمسها الناس بشكل مباشر وملموس من خلال حركتهم وممارساتهم وانشطتهم الاجتماعية والثقافية ، ولاول مرة تنفست الفنون في الهواء الطلق ، فرأينا جداريات توثق وتجسم معاني الثورة ومطالبها على امتداد الطرق الرئيسية دون ان يأتي احد ويمنع الفنانيين التشكليين من الرسم ومصادرة الوانهم وادواتهم ، ولم يعد الرسم في الطرقات امرأ غريبا ومستهجناً وممنوعاً، وهذه رفعت ذائقة الناس لتتعامل مع الفن التشكيلي الذي كان بمثابة هتافهم اليومي في الشوارع ، وكان جابرا لخواطر الامهات المكلومات اللائي فقدت ابنائهن من شهداء الثورة ، وكان فخرا واعتزاز للمارة بانهم كانوا جميعا جزء من فعل التغيير الكبير.
على سياق هذه الحريات قامت الكثير من الفعاليات الثقافية دون ان تكلف منسيقيها رهق وبيرقراطية الاجراءات العقيمة من اذنات وتصاريح لا حصر لها من جهات امنية وشرطية مليئة بالكثير من اللوائح كان الغرض منها اعاقة الانشطة الفنية والثقافية المختلفة واحباط النشطاء وارهاقهم نفسياً ومعنوياً.
الان بعد التغيير لامس الفنانون الحرية بمعناها الواسع على المستوى الفردي وهذا بالطبع سينعكس على نشاطهم وادائهم الفني ، مثلا اول مسرحية حضرتها بعد الثورة كانت مسرحية ( اوين كافيه) في قاعة الصداقة ، استشعرت تغيرا كبيرا في شكل الاداة والعرض ، خاصة هي مسرحية اعتبرها نسوية وخاطبت بعض قضايا المرأة الاجتماعية بشكل ملفت وبجراءة كبيرة ، كما أن هناك تحرر حقيقي فيما يخص جسد المرأة واداءها على الخشبة. وهذا يوضح ان لهذه الثورة منجزات كبيرة على ارض الواقع فيما يخص الحريات وحرية التعبير . ما شاهدته في هذه المسرحية في السابق كان سيكون وبالا وسببا لمنعها من العرض ، وربما يأتي الرفض من الجمهور نفسه المتأثر بمزاج النظام القمعي ووالمأدلج بمعايير الحشمة والسترة لجسد وصوت النساء. ايضا شاهدت عروضا لافلام قصيرة كانت ممنوعة لاسباب عدة حتى من مجرد تصورها وانتاجها ناهيك عن العرض ، مثل فلم ستموت في العشرين ، وخرطوم اوف سايد وحديث الاشجار وكلها افلام كان سيحكم عليها بالمنع بذهنية النظام السابق.
على المستوى الاجتماعي هناك استعداد نفسي ان هناك حياة جديدة واجواء جديدة ، سوف يتعود الناس على الاختلاف ويمضون نحو قبول بعضهم البعض برحابة صدر وسماحة .
في مثل هذه الاجواء تزدهر الفنون وسيتم ابتكار منصات عرض في الصالات والقاعات ودور الثقافة المختلفة بعد استعادتها من المصادرة ومن السلطات الامنية ، وقد تنتقل الانشطة الى ساحات الاحياء وانديتها بكل يسر بعد اجراء التنسيق اللازم، خاصة عندما تشكل الفنون الالية الفعالة لمخاطبة قضايا الفترة الانتقالية من عدالة وحريات وبنود اتفاقيات السلام الموقعة اخيراً ، يجب ان يعلم السياسي بان الثقافي هو قلب ودينمو التغيير القادم.
دور الفنانين في السياق السياسي والاجتماعي في السودان بعد الثورة:
فرض الوضع الراهن (بعد الثورة) اجواء تتسم بالهلع من الازمة الاقتصادية المتفاقمة بالاضافة لضغوط شعبية ملحة تتعجل لرؤية نتائج الثورة على ارض الواقع ، وسادت حالة من الاحباط العام واصوات ساخطة تلعو وتهبط ودخول حالة من التشكيك في الوضع السياسي العام وبروز سؤال السودان الى اين ؟ ، هذه الحالة جاءت من الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب السوداني من تضحيات جسام للوصول الى حالة مستقرة ومرضية للجميع ، مما حدى بقادة الثورة الذهاب نحو تعجيل اجراءات التغيير الجذري وهو امر مقعد لا يصلح معه العجلة او التسرع ، طالما رغب الناس في تغيير جذري ، بالاضافة لادارة الفترة الانتقالية بحكمة.
التدخل المباشر للفنانين ملح ومهم لامتصاص التوتر بين بطيء التنفيذ والتأخر في النتائج وبين تعجل الناس لرؤية احلامهم تتحقق ، بالاضافة لقضايا اخرى تتعلق ببناء وحماية السلام .
باستطاعة الفنون تحقيق اجماع والتفاف الناس بتلقائية وسرعة اكثر من الخطب المسيسة ، باستطاعة فنان واحد تحريك اجواء ايجابية بجهد قليل وفي زمن وجيز ، كما يمكنه مخاطبة القضايا ذات الحساسية العالية بشكل مبسط ، وتهيئة الناس لقبول حقائق جديدة بطرح اسئلة جديدة من قلب المجتمعات ذاتها. خيال الفنانين متجاوز لعدم مرونة الساسة وتحفظات الناس حولهم . اعتبارا لكل ما سبق على الفنانين ان يؤمنوا بقوة تأثيرهم ، وعليهم ان ينظموا انفسهم افرادا وجماعات والبدء فورا للقيام بمسؤولياتهم الاجتماعية والوطنية ويكونوا قادة الزمن القادم كما هو منوط بهم دائما وشرعيتهم الوحيدة هي سحر التأثير.
لماذاالفنانون هم القادة المناسبين لهذه الفترة المعقدة من عمر السودان:
_ لانهم يفكرون بشكل مبدع حتى في احلك الظروف
_ لديهم القدرة لمخاطبة قلوب ومشاعر العامة
_ لديهم الحساسية العالية للتعبير عن احتاجات الاخرين من خلال القصائد واللوحات والموسيقى _ لديهم القدرة على إمتصاص توتر الاجواء السالبة بسهولة وتحقيق التفاف حول المنتوج الفني المعروض.
_ القبول .
قد تكون هناك ميزات اضافية ولكن ارتكازا لهذه فقط ، بامكان الفنانين فعل الكثير والتأثير على دفة الاحداث بشكل كبير، خاصة اذا ارادوا مخاطبة قضايا ملحة ابرزتها الوثيقة الدستورية واتفاقيات السلام الموقعة مؤخرا يعض بنودها لها ابعاد ثقافية كقضايا السلام وبناء السلام والتعايش السلمي وقبول الاخر، الهوية والتنوع واسئلة الانتماء ، كلها قضايا يمكن للفنانين المساهمة فيها . لكن الفنانين لا يستطعون العمل بمعزل عن الدولة وتنظيمها للانشطة والجماعات والافراد الفنية ، ادارة الفنون في السودان بواسطة مؤسسات الدولة تعاني ايضا في الوقت الحالي من مرحلة الانتقال ، لتحويل الهياكل التنظيمية القامعة واللوائح المقيدة داخل المؤسسات الثقافية الى سياسات تدعم الفنانين وتحترم ادوارهم وتهيء لهم المنابر المختلفة للعمل ، هذا مهم لتلبية احتياجات المستقبل.
لابد من الفنانين والمؤسسات العمل ساق بساق والانطلاق من هياكل ادارية وفنية راسخة معتمدة على سياسة ثقافية واضحة تدعم خط السلام والتعايش والتنوع الموجود.
بالرغم من أن الوضع يبدو عليه القتامة ولكن لابد من ان يعمل الفنانين والمثقفين من اجل التحول وتحقيق نوع من الهدوء والهارموني .
الفنون وحدها لها القدرة على ادانة قبح الماضي واستشراف مستقبل مشرق .