الحق في الفضاء العام
عمل على إنتاج الحلقة كل من:
بحث وإنتاج: المزن محمد الحسن، مي أبو صالح، و زينب عثمان.
تقديم وتصميم بوستر: عزة محمد.
تحرير: المزن محمد الحسن، مي أبو صالح، زينب عثمان، و حسام هلالي.
موسيقى: الزين ستوديو.
ميكساج: طارق سليمان.
إدارة: زينب عثمان.
معدات ومساعدة تقنية: المصطبة TV
تم التسجيل باستديو
404 Creative Design
الكاتب: وفاء عبد العظيم محمد
المدقق: ريان خليل
الفضاءات العامة رئة تنفُّس في مدينة مزدحمة ومتمدّدة باطّراد كالخرطوم. خلال الثلاثين عاماً الماضية يمكن تلخيص سياسات السُلطة تجاه المساحات العامة واستخدامها في ثلاث كلمات تقريباً؛ الخصخصة، تضييق الاستخدام وتغيير الغرض. نتج عن ذلك تآكل البنية التحتية لمدينة الخرطوم من الميادين والساحات العامة، خاصة خلال سنوات الإنقاذ. يصحو الناس يوماً بعد يوم، ليجدوا هذه الحديقة أو ذاك الميدان العام بِيع لمستثمر ما أو أُجِّر له لسنوات عديدة، وسُرعان ما ترتفع الأسوار حوله، وتُغلَق البوابات دونه، ويضيق الفضاء العام شيئاً فشيئاً.
في هذا المقال، نلقي نظرة على بعض المساحات العامة النشِطة التي نشأت عفوياً بلا تخطيط، ومصير تلك المخطّطة منها. نستكشف دور المساحات العامة في الحياة السياسية للبلاد، ثم نستعرض دور سياسات الخصخصة في خسارة المكان العام بالنظر إلى بعض الأمثلة، و إلى الجانب القانوني لهذه الحملة المُمنهجة لتجريد المدينة من مساحاتها العامة.
يبدأ الفضاء العام فعلياً عند عتبة البيت، “المصطبة” أي الجزء المرتفع قليلاً أمام المنزل، التي تمثِّل مسرحاً للعديد من الأنشطة الاجتماعية، مثل لعب الأطفال أو إفطار رمضان، كثيراً ما تُصمَّم وتبنى مع البيت كامتداد طبيعي له. لكن تركيزنا سينصَبُّ على مستوًى أشمل، على الساحات و الميادين والحدائق العامة، و لنبدأ أولاً بتلك التي تشكّلت تلقائياً بلا تخطيط.
لعل ميدان أتني، على صِغر مساحته وغرابة أصله، وحقيقة أنه ليس مساحة عامة بالمعنى التقني للكلمة، يُعَدُّ واحداً من أكثر الساحات العامة شهرةً، خاصة في السنوات الأخيرة. كما أن لرواده وطبيعة النشاطات فيه صورة خاصة في المخيال الجمعي. جزء كبير من هذه الشهرة الأخيرة يمكن أن يُعزى إلى معرض “مفروش” للكتب المستعملة، الذي انتظم خلال الأعوام ما بين 2012 و2015 قبل أن تعرقِل السُلطات إقامته.
أتني، كمساحة عامة، وليد الصدفة، أو لعبت الصدفة أثراً كبيراً في وجوده، إذ أن الميدان نفسه ليس ميداناً عاماً، إنما جزء من عقار تملكه عائلة أبو العِلا، تم بناؤه في فترة الاستقلال. العقار الذي صمّمه ن.ستيفانيس يضُم خمسة مبان مكتبية، ويقع في تقاطع شارعيْ القصر والجمهورية، أحد أكثر تقاطعات المدينة نشاطاً، مما جعل الوصول إليه سهلاً من معظم نواحي منطقة وسط الخرطوم. بُنيت أربعة مبانٍ من بين المباني المصممة، بينما بقيت مساحة المبنى الأخير في الوسط خالية إلا من رؤوس الأعمدة ومدخل ومخرج لموقف السيارات في القبو، وهذه هي المساحة التى تحوّلت لاحقاً إلى ساحة أتني. هذا التمركز الوسطي جعل الساحة “مُحتضَنة” بين بقية المباني، و أعطاها نوعاً من الانفصال عن إزعاج الشوارع المحيطة. بقية المباني ترمي بظلها على الميدان منذ الظهيرة، مما جعل استخدامه ممكناً في تلك الأوقات، على عكس ميادين أو ساحات عامة أخرى تكون مشمسة أغلب النهار. فوق هذا كله، فالميدان مُحاط من ثلاث جهات بمحلات تجارية وحوانيت مفتوحة على فرندات، مما يجعله مأهولاً طوال اليوم بدون أن يزدحم.
ربما كانت طبيعة المِلكيّة الخاصة لأتني هي ميزته الأعظم؛ إذ قلَّلَت من قدرة الحكومة –أو الحكومات- على التصرُّف فيه أو تقييد استخدامه. و هذه من المفارقات الغريبة؛ أن تبعية أتني للقطاع الخاص هي ما يحمي استخدامه العام من التغوّل الحكومي! و تصبح هذه المفارقة جليّة بالنظر إلى قصة معرض مفروش.
أُقيمت أول فعالية لمفروش في مايو 2012 بمبادرة من جماعة عَمَل الثقافية، في الميدان الذي تم اختياره لرمزيته، إذ كان مكان التقاء المثقّفين لعُقود. المعرض يقوم على فكرة بسيطة، في أول ثلاثاء من كل شهر يفترش الأرض حوالى عشرين إلى خمسين بائعاً للكتب “فراشاً”، لعرض بضاعتهم من الكتب، قديمة كانت أم مستعملة أو جديدة أو نادرة أو ممنوعة، والمعاملات تكون إما بالبيع أو التبادل.2 كان المعرض يستقطب مئات الروّاد من مختَلَف الفئات والأجيال، كما كان مكاناً للالتقاء بالأصدقاء والنقاش، في فترة تمتد لساعات منذ بدايات المساء وحتى الساعة التاسعة. لم يقتصر المعرض على الكتب فقط، إذ كانت تُعرض به المشغولات اليدوية، وربما صاحبته عروض موسيقية من حين لآخر.
لم يكن المعرض مدعوماً من أي مؤسسة حكومية ولم يشكِّل هذا أيّ مشكلة في أول عامين من عمره، لكن المضايقات بدأت في إثر التقييد والقمع الذي تلا هبة سبتمبر 2013. مُنِع المنظِّمون من إقامة المعرض عبر حبسهم في سلسلة من الإجراءات البيروقراطية بحجّة أن عليهم تسليم قائمة بجميع عناوين الكتب التى ستُعرض، الأمر الذي يُعَدُّ ضرباً من المستحيل لمعرض يقوم أساساً على تبادل رواده لكتبهم المستعمَلة بحُرٍّيّة.3 وبعد توقُّف دام لعدة سنوات عاد مفروش إلى ساحة اعتصام القيادة ثم أصبح لاحقاً يُقام في ساحة المتحف القومي.4
خَلَقَ مفروش مساحة للثقافة في وقت كانت تزداد فيه القيود المفروضة عليها، وتضيق المساحات المفتوحة للعمل العام. وعندما تعذَّر على السلطات التخلُّص من الميدان ببيعه أو منع النشاط العام فيه كما يحدث عادة مع الميادين العامة؛ عمدت إلى التخلص منه عبر ثُقب البيروقراطية الأسود. ولايبدو أن المشكلة كانت في أتني أو في مفروش نفسه بقدر ما كانت المساحة الحرة التي وفّرها، والتي تَرَى فيها السلطة الديكتاتورية سرطاناً لابد من استئصاله.
المساحة الأخرى في الخرطوم التي يُمكن اعتبارها وليدة الصدفة هي شارع النيل، الذي تحوَّل تدريجياً إلى مُتَنفَّس مهم يحتضن المئات من أصحاب الأعمال الصغيرة المُعتمِدين على وجوده كمساحة عامة يرتادها جميع سكان المدينة. بدأ نمط خصخصة الواجهة النهرية عبر بيعها للاستثمار الخاص يظهر في الجزء الشرقي من الشارع. بين جِسرِيّ القوات المسلحة والمنشية، يمكن ملاحظة عدة منشآت ومرافق خاصة مثل النادي الوطني أو صالات الأفراح. نمط التغوُّل على المساحات العامة الذي يتشكَّل في هذا الجزء من شارع النيل يُعمَّد رسمياً في مخطَّط الخرطوم الهيكلي (آخر خطة حضرية للخرطوم الكبرى)، وتحديداً في مخطَّط منطقة المقرن وغابة السنط. يبدو أن هناك نزعة واضحة لتحويل المنطقة إلى غابة إسمنتية من نوع ما؛ إذ أن الخطة تنحى لرفع كثافة المنطقة وتحويلها لمنطقة أعمال مليئة بالأبراج المكتبية.6 معظم المساحة بين النيل الأزرق وشارع النيل ستكون خاصة، أي أن الوصول للواجهة المائية سيصبح امتيازاً وليس حقاً في مدينة تعبرها ثلاثة أنهار. فُتح عطاء للخطة التى وُضِعت بأفق خمسة وعشرين عاماً للشركات المحلية والعالمية على حد سواء عام 2005.7 لا يبدو أن مشروع كمشروع المقرن يضع في اعتباره مصير مستخدمي المكان المذكورين آنفاً، سواء أصحاب الأعمال الصغيرة أو زبائنهم من مرتادي المكان، أو حتى النسيج الحضري للمدينة.
ذكر مفروش و شارع النيل مهم لأنهما مساحتان عامتان مركزيتان إلى حد ما، ولأنهما ليستا مخطَّطَتَْين بل نَبَعَتا من حوجة الناس إليهما ونمط استخدامهم للمكان، لكن لفترة وجيزة كانت منطقة الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش هي “الميدان” الرئيسي للمدينة. بصورة أو بأخرى كانت بها كل النشاطات التي تتوقع وجودها في ميدان عام، حيث يلتقي الأصدقاء عفوياً بعد ساعات العمل، أو تُقام بعض الفعاليات أو الحفلات الكبيرة، أو المكان الذي يلتقي فيه الناس لمجرد الوَنَس و تبادل الآراء. كل تلك الاستخدامات التى وُظِّفَت لها منطقة الاعتصام نشأت تلقائياً أثناء تواجد الناس فيه، لكن الغرض الذي كان مقصوداً لحظة وصول الجموع إليها كان لإيصال أصواتهم، كان غرضاً سياسياً بالمقام الأول.
هذه القَصْديَّة السياسية هي إحدى السمات المهمة في استخدام الفضاء العام في المدينة، فذاكرة الخرطوم مع الثورات والحِراك المدني ذاكرة عجوزة تمتد إلى ما قبل الاستقلال. من المستحيل الكتابة عن الفضاء العام في مدينة كالخرطوم بدون ذكر اللحظات التي نَقَشَت فيها آلافُ الأقدام ذاكرةً حية، ما تزال معلّقة في أرصفة و تراب وأسفلت الشوارع.
ميدان عبد المنعم (سابقاً)، ونادي الأسرة حالياً، كان المسرح الأول لثورة أكتوبر 1964 حيث شُيِّع فيه الشهيد القرشي، و المسرح الثاني الأهم كان شارع الجامعة، حيث اتجه آلاف المواطنين في الثامن والعشرين من أكتوبر تجاه القصر الجمهوري، حتى ملأت أجسادهم جميع الشوارع المحيطة به.10 أما شارع القصر، فقد زارته أقدام الثوار في أبريل 1985، إذ تدفَّقُوا في الثالث من أبريل على امتداد الشارع من محطة السكة الحديدية و حتى القصر نفسه.11 أهم مسارح ثورة ديسمبر 2018 “القيادة” لم تكن ميداناً وإنما مجموعة من الشوارع المحيطة بالقيادة العامة لأركان الجيش، و كنقطة تجمُّع لعدد من الشوارع الرئيسية فهي إحدى مناطق المدينة المركزية.
يتبيّن لنا أنه عدا ميدان عبد المنعم، فإن معظم الحراك المدني كان في الشوارع وليس الميادين العامة. لماذا إذاً كانت معظم الأحداث السياسية الكبيرة مرتبطة بالشوارع؟ لماذا شارع الجامعة وشارع القصر وليس ميدان أبو جنزير مثلاً؟ ميادين مثل ميدان التحرير في القاهرة او ميدان تيانانمن في بكين كانت مسارح لأحداث سياسية مهمة. هل لأن الخرطوم في الأصل تفتقد للميادين العامة؟ أم أن هذه المساحات لها مشاكلها؟ ما الذي منع هذه الميادين من أن تكون مسرحاً لأحداث كتلك؟
إن استعراضاً بسيطاً لتاريخ ميادين الخرطوم المركزية مثل ميدان عبّاس سابقاً، وميداني أبي جنزير والأمم المتحدة، وميدان عبد المنعم، يمكن أن يعطي لمحة عن السبب وراء هذا. الأخيران تحديداً يُلقِيان الضوء على سياسة الخصخصة وتغيير الغرض التى انتهجتها الحكومات السابقة. إن التجلي الأعظم لسياسات الدولة المعادية لوجود فضاء عام حي وحر يظهر في ميدان عبد المنعم، الذي كان بؤرة للتجمعات المطلبية والحراك المدني في الخمسينات والستينات، ثم تراجع دوره حتى اختفى تماماً من المخيلة الجمعية.
لنستهلّ بأول ميدان خُطِّط في الخرطوم، ميدان عبّاس (المسمّى على الخديوي عباس)، كان الميدان الرئيسي لخرطوم كتشنر، وظلّ يخدم كميدان رئيسي للمدينة المتّسِعة باطّراد، يتوسطه-على نمط كثير من المدن العربية- المسجد الكبير ويحيط به السوق الرئيسي، و يقطعه شارع فكتوريا أوسع شوارع الخرطوم.14 مع تمدُّد المدينة بدأ الميدان يتقزَّم تدريجياً أمام زحف المباني المتطاولة حوله، حتى لم يتبقَّ من الميدان الأصل سوى ميدانيْن صغيرين هما ميدان الأمم المتحدة وميدان أبو جنزير.
سُمِّي ميدان أبو جنزير على صاحب القبر المحاط بالسلاسل الحديدية (الجنازير) الذي كان يتوسط الميدان. في السنوات الأخيرة أُحيط الميدان بأسوار، وأثناء ثورة ديسمبر كانت تتخذه القوات الأمنية كنقطة إرتكاز. كأن احتلال قوات أمنية لميدان عام كأحد أوقح مظاهر عسكرة الدولة لم يكن كافياً؛ فقد تحوَّل الميدان خلال ثورة ديسمبر إلى نقطة لتجميع المعتقلين من المواكب المركزية في منطقة وسط الخرطوم، حيث يتم توزيعهم منها إلى مراكز الاعتقال المختلفة.16 17
أما ميدان الأمم المتحدة فكان ذا استخدامات متعددة، فالجزء الجنوبي منه كان يضُم ملعباً لكرة القدم، والجزء الشمالي به سوق لبيع الخضار يسمى سوق الزنك.18 صَمَد الميدان أمام التغيّرات حتى عهد نميري، ثم تحوَّل لاحقاً إلى مكتبة القُبّة الخضراء، التي هُدمت ليُبنى في موقعها أبراج الواحة. أما سرّ الاسم هنا فيرجع إلى أنه الميدان الذي كانت تُرفع فيه أعلام الأمم المتحدة.
ميدان عبد المنعم هو الميدان الرئيسي لحي الخرطوم 3، وخطِّط على نَسَق مُغايِر تماماً لخرطوم كتشنر. فعلى عكس الشبكة المنتظمة بلا انقطاع ، فإن الخرطوم 3 خُطِّطت حول مركز دائري يمثِّلُه ميدان عبد المنعم. في الخمسينات والستينات كان الميدان مسرحاً لأحداث مهمة في ذاكرة المدينة. أحداث امتدّ أثرها للبلاد كلها، مثل اعتصام مزارعي الجزيرة في الميدان في التاسع والعشرين من ديسمبر 1953، حينما احتلّ خمسة وعشرون ألف مُزارعٍ من مشروع الجزيرة بأُسَرٍهٍم ميدان عبد المنعم ونجحوا في إجبار الحكومة على الاعتراف باتحادهم.19 شهد الميدان أيضاً اجتماع نُوّاب البرلمان في السابع عشر من نوفمبر 1958 للتصويت على سحب الثقة من حكومة عبدالله بك خليل ، الذي حاول منعهم بتأجيل جلسة البرلمان وسَلَّم السلطة للجيش في اليوم التالي.20 موكب تشييع الشهيد القرشي المذكور آنفاً والذي مَثَّل بداية النهاية لحكومة عبود كان أيضاً في الميدان ، حينما حَمَل زملاء وأساتذة القرشي-الطالب بجامعة الخرطوم آنذاك- ومن انضمّ إليهم من المواطنين، جثمانه من مستشفى الخرطوم عبر شارع الاسبتالية عابِرِين جسر الحرية باتجاه حي الخرطوم 3، حيث صَلَّوا عليه في الميدان، قبل أن يُحمَل إلى مسقط رأسه في قرية القراصَة في ولاية الجزيرة ليُدفن هناك.21
تحوَّل الميدان فيما بعد إلى نادي الأُسرة، الذي سمح اتّساعُه باستيعاب مختلف الأنشطة الرياضية والاجتماعية والسياسية. كان النادي يضم ملاعب وصالات لمختلف الرياضات من بينها التنس والاسكواش والبلياردو. بالإضافة لذلك فقد كان مسرحاً للعديد من الندوات السياسية، والأهم أنه كان مقصداً للأُسر التي تسكن في الحي والأحياء المجاورة حتى بداية التسعينات. بعد ذلك بدأت السلطات في تقييد استخدامه، ثم بدأت باقتطاع أجزاء منه لاستخدامها كمقر لمنشآت حكومية أو أجهزة أمنية، كما مُنحت أجزاء من النادي للاستثمار الخاص.23 الهجمة الشرسة لخصخصة النادي ربما تصير مفهومة بمعرفة أن قطعة الأرض المُقام عليها النادي من بين أعلى الأراضي سعراً في الخرطوم.
من بين ما يجعل ميدان عبد المنعم سِجِلاًّ تاريخياً مهماً لفهم العلاقة بين الفضاء العام والدولة أنه: أولاً رغم أنه صُمِّم أساساً ليخدم على مستوى الحي وربما الأحياء المجاورة كما ذكرنا وليس على مستوى المدينة، لكن كما يتضح من تاريخ الميدان أنه في فترات كان يخدم مستوى أكبر من المدينة نفسها. و ثانياً أنه يكشف الإمكانيات المُهدَرَة لميادين الأحياء، كما يتضح من الفترة التي تم تطويره فيها وكان يضم نادي الأسرة. فوق هذا كله فالميدان مثال على العداء الذي تعاملت به الدولة مع المساحات العامة، خاصة خلال الثلاثين عاماً من عهد الإنقاذ. هذا العداء خلق نمطاً واضحاً يتمثَّل في الحملة الممنهجة للاستيلاء على الميادين العامة، بدءاً من مستوى ميادين المدينة الكبيرة وحتى ميادين الأحياء، بل إن حملة الاستيلاء هذه تصل إلى حد الوقاحة في الميادين الصغيرة المُوزَّعَة في الأحياء البعيدة عن عين الرقابة الشعبية.
إذاً كيف أصبحت ميادين الأحياء صيداً سهلاً لجشع الحكومات والمستثمرين؟ أولاً هنالك مسألة: كيفية بداية نمط الاستيلاء هذا؟ ثم كيف ساعد التخطيط العام للمدينة وتخطيط هذه الميادين نفسها في تسهيل استمراره؟
بحسب د. عثمان الخير، المهندس المعماري والباحث المتخصص في مجال المستوطنات البشرية، فيمكن القول بأن البذور الأولى التى ستُنبِت هذا النمط قد زُرعت خلال عهد الديكتاتورية العسكرية الأولى. خلال عهد عبود خُطِّطَت أحياء بميادين واسعة للغاية، مثل الثورات في أمدرمان. لاحقاً، خلال عهد النميري وأزماته المالية المتلاحقة التفتت الحكومة إلى تلك الميادين، التي ارتفعت قيمة أراضيها بعد أن أصبحت في وسط المدينة المتمددة. إدارة نميري بدأت باستقطاع شريط طولي من الاتجاهات الأربعة للميادين، و تقسيمه إلى قِطَع أرضي سكنية بِيعت في المزاد. بما أن تلك الميادين كانت واسعة للغاية وأكبر من حوجة تلك الأحياء، لم تكن تلك الخطوة إشكالية في ذاتها، كما هي محاولة للتحكم بالتمدُّد العمراني للمدينة الذي بدأ يخرج عن السيطرة. المعضلة أن هذه السياسة فتحت الباب على مصراعيه للاستيلاء على ميادين الأحياء.24
أحد أهم العوامل التى سهلت الاستيلاء على ميادين الأحياء و جعلته أمراً تصعُب ملاحظته وبالتالي التصدِّي له، أن معظم هذه الميادين كانت مهجورة تقريباً، أرض خلاء خالية من الحياة قلّما تُستخدَم، وإن حدث فمكبّ نفايات أو طريق مختصر. هذا الهجر رجوعاً إلى د. عثمان الخير، جاء نتيجة لتركُّز الخدمات في أطراف الأحياء لتكون قريبة من الشارع الرئيسي المسفلت، مما أدّى إلى موت مركز الحي الداخلي حيث يكون الميدان عادة. هذا الهجر يبعده عن ذاكرة ساكني الحي وبالتالي يبعد عنه عين الرقابة الشعبية. بالطبع هذا وحده لا يكفي لتفسير ظاهرة تآكُل هذه الميادين، لكن إذا أُضيف لكل ما سبق قانون تخطيط فضفاض بلا حدود واضحة لسلطات الأفراد المنوط بهم تنفيذه، وبلا لوائح مفسِّرة له، تكون المعادلة قد اكتملت لتجريد الأحياء من الميادين والمدينة نفسها من المساحات العامة.25
لعل إلقاء الضوء على بعض الجوانب القانونية لتخطيط واستخدام الفضاء العام، يمكن أن يعطي لمحة عن الطريقة التي كان ينظر بها النظام السابق للمساحات العامة، وإلى رمادية و مطّاطية الإجراءات البيروقراطية التي تجعل من حماية تلك المساحات صعبة وتسهِّل خصخصتها ومنحها.
بحسب سلوى أَّبَّسَام، المحامية والناشطة في عدد من منظمات المجتمع المدني، فإن القانون الحالي الذي يحكُم استخدامات الأرض وتخطيطها هو قانون التخطيط العمراني والتصرُّف في الأراضي لسنة 1994 الذي ألغى قانون التصرّف في الأراضي لسنة 1406هـ وقانون التخطيط العمراني لسنة 1406هـ ،كما ألغى قانون إعادة تخطيط المدن لعام 1950.26 قانون 1994 مختَصَر وبه 49 مادة فقط، ولذا فهو بحاجة لكثير من اللوائح المفسِّرة والمكمِّلة له، وهنا تبدأ مشكلات هذا القانون. لكن قبل أن نأتي على ذكر ذلك، ينبغي أن نوضِّح مَن هم الأفراد والمؤسسات المعنيون بتنفيذ هذا القانون. أولاً هنالك المجلس الأعلى للتخطيط العمراني، وهو المسؤول الأول عن وضع السياسات والخطط العامة والإشراف على تنفيذها، ثم لكل ولاية هناك وزير التخطيط العمراني ولجنة التخطيط بالولاية.27
من بين صلاحيات المجلس الأعلى للتخطيط العمراني المذكورة في المادة 8 التصديق على تغيير مجال استخدام الأرض، باستثناء الفَسَحَات والميادين العامة، حيث أُعطِيَت هذه الصلاحيات إلى الوزير ولجنة التخطيط في كل ولاية وفقاً للمادة 9، التي تحدد صلاحيات الوزير، الذي تُسند إليه أيضاً مهمة اعتماد الخرائط الموجّهة.28 هذه الخرائط هي التى تُحدَّد فيها احتياجات المنطقة الخدمية واستخدامات الأرض، بما في ذلك تحديد المساحات والميادين العامة. المادة 9 أَعطَت الوزير صلاحية التوصية بتغيير الغرض لأي مساحة عامة “متى ما اقتضت الضرورة ذلك” وأسندت مهمة إجازة أو رفض هذه التوصية إلى لجنة التخطيط في الولاية؛ أي أن اللجنة هي التي تحدِّد ما “الضرورة” التي تستدعي التغيير.29 ثمة تضارُب غريب في أن قرارات هذه اللجنة تُستأنف عند الوزير نفسه. للوزير أيضا صلاحية التصرُّف في الأرض بأفضلية تخصيص أي قطعة أرض لصالح جهة ما بموجب المادة 42، والتي تشمل أيضاً ضوابط لهذا التخصيص، الذي يمر بالإجراء السابق نفسه، أي أن لجنة التخطيط لها أن تُجيز أو أن ترفض هذا التخصيص.30
الآن نعود إلى الجزء الإشكالي من القانون، حيث توضح د. أَّبَّسَام أن تعبيرات مثل “متى ما اقتضت الضرورة ذلك” هي تعبيرات فضفاضة ومرنة، وقابلة للتفسير على هوى السلطة التنفيذية. الوضع الأمثل هو أن أي غموض من هذه الشاكلة يتم إجلاؤه في اللوائح الفنية والتنفيذية التابِعة للقانون. فالذي كان يحدث حقيقةً أنه وخلال الثلاثين عاماً الماضية، كان هنالك توجُّه أو نزعة لتكون اللوائح متضارِبة مع القوانين التى صدرت تحتها، كما أن كثير من هذه اللوائح لا يمكن الاطّلاع عليها، إذ أنها لم تُنشَر في أي مكان. لتكتسب أي لائحة شرعية القانون وتصبح نافذة لابد أن تكون سليمة فنياً، وألّا تتضارب مع القانون المفسِّرة له ولا مع الدستور. الأهم من ذلك لابد أن تُنشَر في الجريدة الرسمية لوزارة العدل، الأمر الذي لم يكن ينطبق على اللوائح المفسِّرة لقانون التخطيط العمراني والتصرُّف في الأراضي لعام 1994.31
عدم شفافية و رمادية هذه القوانين وبالتالي الإجراءات البيروقراطية، تجعل مهمة مراقبة السلطة التنفيذية وحماية الحق العام شبه مستحيلة. كيف يمكن أن يعْلَم الناس أن تغيير استخدام هذا الميدان أو بيع هذه المساحة العامة كان مخالِفاً لقانون لا يعلمون بوجوده في المقام الأول. سياسة تغييب أصحاب المصلحة هذه ليست بجديدة على نظام الإنقاذ، بل هي التي سمحت له بالبقاء لثلاثين عاماً، وهذا التعتيم لا يقتصر على مصلحة الأراضي فقط بل يمتد إلى كامل السلطة التنفيذية.
سياسة الحكومات تجاه المساحات العامة تعكس تقديرها للفضاء العام بصفته الأشمل، واقعياً كان أم افتراضياً، كفضاء حُر لتبادل الآراء، ومجتمع مفتوح يتفاعل فيما بينه. المساحات العامة جزء أصيل من هذا التفاعل ومسرح مهم لحدوثه. غالباً ما تَنزَع الديكتاتوريات للتضييق على هذا التفاعل، مدفوعة بغريزة البقاء والدفاع الشَّرِس عن وجودها من عَواقِب هذا التفاعل، بدءاً من الاحتجاج على توجُّه أو سياسةٍ ما، وحتى الاحتجاج على وجودها نفسه. بالمقابل وكما في شعار الواشنطن بوست “فالديمقراطية تموت في الظلمة”. لا يمكن للديمقراطية أن تُولَد إلا في فضاء طَلِق ومفتوح لكل أفراد المجتمع بلا استثناء، ولا يمكن أن تكون معافاة في غياب مساحات عامة تحتضن الجميع.
1 @SudaneseCulture. “Eteni Square, Khartoum, 1970’s, Sudan. . . .” Twitter, 29 Mar. 2018, 9:29 p.m., https://twitter.com/SudaneseCulture/status/979440538712764416?s=20
2 بشير، يوسف. “(مفروش) معرض للكتاب على الهواء الطلق !!” المجهر السياسي، 15 أبريل 2014، https://www.sudaress.com/almeghar/19422. تم الوصول إليه 30 مايو 2021.
3 هلالي، حسام. “الثقافة في السودان.. حكم البيروقراطية والمناورات.”ألترا سودان، 30 أغسطس 2015، https://ultrasudan.ultrasawt.com/. تم الوصول إليه 3 يونيو 2021.
4 “عودة ﻣﻌﺮﺽ ﻣﻔﺮﻭﺵ ﻟﻠﻜﺘﺎﺏ ﺍﻟﻤُﺴﺘﻌﻤﻞ ﺑﻤُﺘﺤﻒ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﺍﻟﻘﻮﻣﻲ.” صحيفة التحرير، 2 أكتوبر 2019،https://www.alttahrer.com/archives/36614. تم الوصول إليه 7 يونيو 2021.
5 جماعة عمل الثقافية. مفروش في متحف السودان القومي. فيسبوك، 1 أكتوبر 2019، 7:57 ص، https://web.facebook.com/WorkCulturalGroup/posts/2641406809249081?__tn__=-R. تم الوصول إليه 21 يونيو 2021.
6 Osman, Amira. “Sudan student protests show how much city planning and design matter.” The Conversation Africa, 5 May 2016, https://theconversation.com/sudan-student-protests-show-how-much-city-planning-and-design-matter-58877 Accessed 30 May 2021.
7 المرجع السابق
3 Matson Photo Service, photographer. Sudan. Khartoum. Banks of the Blue Nile looking up stream. 1936, Photograph, Library of Congress, Washington D.C., www.loc.gov/item/2019708079/ Accessed 21 June 2021.
9 Matson Photo Service, photographer. Sudan. Khartoum. Banks of the Blue Nile looking down stream. 1936, Photograph, Library of Congress, Washington D.C., www.loc.gov/item/2019708078/ Accessed 21 June 2021.
10 “تحت المجهر – ضد حكم العسكر – ضد عبود.” يوتيوب، رُفع بواسطة قناة الجزيرة، 4 أكتوبر 2013، https://www.youtube.com/watch?v=ij5OZnKTeWU&list=WL&index=18&t=2324s. تم الوصول إليه 3 يونيو 2021.
11 “يوميات أبريل.. أجواء مشحونة.” الصحافة، 7 أبريل 2012، سُودَارِسْ، https://www.sudaress.com/alsahafa/43984. تم الوصول إليه 30 مايو 2021.
12 “In New Protests, Echoes of an Uprising That Shook Sudan.“ The New York Times, 23 Feb. 2012, https://www.nytimes.com/2012/02/24/world/africa/echoes-of-an-arab-revolution-that-rocked-sudan-circa-1964.html. Accessed 21 June 2021.
13 “The neighbourhoods of Khartoum: Reflections on their functions, forms and future.” Habitat International, vol. 16, no. 4, 1992, pp. 27-45.
14 Ahmad, Adil Mustafa. “khartoum blues: the `deplanning’ and decline of a capital city.” Habitat International, vol. 24, no. 3, 2000, pp. 309-325.
15 Matson Photo Service, photographer. Sudan. Khartoum. River in foreground. 1936, Photograph, Library of Congress, Washington D.C., www.loc.gov/item/2019691482/ Accessed 21 June 2021.
16 “تغطية مستمرة..خروج موكب “ضحايا الحروب والانتهاكات”: خيام للاعتقال “بأبي جنزير”” التغيير، 14 فبراير 2019، https://www.altaghyeer.info/ar/2019/02/14/. تم الوصول إليه 5 يونيو 2021.
17 بشير، حسن. “عاجل بالصوره : معتقلين الخرطوم الأن في ميدان ابوجنزير” السودان نيوز 365، 17 يناير 2019، https://www.sudannews365.org/4075. تم الوصول إليه 5 يونيو 2021.
18 الزاكي، عائشة. “معالم الخرطوم زمان.. أيام زمان أيام السرور” الإنتباهة، 28 مارس 2014، موقع النيلين https://www.alnilin.com/906821.htm. تم الوصول إليه 30 مايو 2021.
19 “في ذكرى المعارك الكبرى مزارعو مشروع الجزيرة وموكبهم في 29 ديسمبر 1953.”التغيير، 26 ديسمبر 2015، https://www.altaghyeer.info/ar/2015/12/26. تم الوصول إليه 30 مايو 2021.
20 حاج حمد، محمد أبو القاسم. السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل 1956-1996.الطبعة الثانية، المجلد الثاني، فينبار ف. ديمبسي وشركاه، 1996. ص 207
21 عبد الكريم، أحمد بابكر محمد خير.أسباب وتأثيرات أحداث أكتوبر 1964م على الحياة السياسية حتى عام 1969م. 2011. جامعة الخرطوم، رسالة دكتوراه. http://khartoumspace.uofk.edu/handle/123456789/12094. تم الوصول إليه 30 مايو 2021
22 “ABDEL MONEIM SQUARE ANNIVERSARY OCTOBER REVOLUTION IN KHARTOUM, SUDAN 25 NOVEMBER 1964” IMAGO, https://www.imago-images.com/st/0081524090 Accessed 15 June 2021.
23 الخليفة، ناذر محمد. “نـادي الأسـرة بالـخـرطـوم (3 ) !!!”سودانيز أونلاين، 4 أكتوبر 2006، https://sudaneseonline.com/board/110/msg/1189281033.html. تم الوصول إليه 30 مايو 2021.
24 الخير، عثمان. مقابلة. مع زينب عثمان. 11 سبتمبر 2020.
25 المرجع السابق.
26 أبسام، سلوى. مقابلة. مع زينب عثمان. 12 سبتمبر 2020.
27 قانون التخطيط العمراني و التصرف في الأراضي، رقم (26) لسنة 1994.قوانين السودان، المجلد السادس.وزارة العدل- جمهورية السودان. https://moj.gov.sd/sudanlaws/#/reader/chapter/138. تم الوصول إليه 26 مايو 2021
28 المرجع السابق.
29 المرجع السابق.
30 المرجع السابق
31 أبسام، سلوى. مقابلة. مع زينب عثمان. 12 سبتمبر 2020.
مراجع إضافية استُخدمت في البودكاست:
1. Awad, Zuhal Eltayeb. “Evaluating Neighborhoods Developed Open Spaces In Khartoum-Sudan”. Civil Engineering And Architecture, vol 6, no. 6, 2018, pp. 269-282. Horizon Research Publishing Co., Ltd., doi:10.13189/cea.2018.060601.
2. Bahreldin, Ibrahim Zakaria. “Beyond The Riverside: An Alternative Sustainable Vision For Khartoum Riverfront Development”. Civil Engineering And Architecture, vol 8, no. 2, 2020, pp. 113-126. Horizon Research Publishing Co., Ltd., doi:10.13189/cea.2020.080209.
3. Bashari, Wala et al. “Spatial Impact Of Gender Variation On Khartoum City River Side Public Open Space”. Sudanese Institute Of Architects, 4Th Scientific Conference, 2015. Researchgate, https://www.researchgate.net/publication/307883060_Spatial_impact_of_gender_variation_on_Khartoum_city_river_side_public_open_space Accessed 5 June 2021.
4. Gali, Naser. “Urban Design Of Open Common Spaces In Khartoum State”. Sudan University For Science & Technology, 2017.
5. Layton, M. City Of Khartoum, including Khartoum North and Omdurman cities Drawn In 1952, Map.The Sudan Survey Department, 1952, Khartoum, The David Rumsey Historical Map Collection online archive, https://www.davidrumsey.com/luna/servlet/detail/RUMSEY~8~1~318985~90087926:Alkhartoum Accessed 7 Jun. 2020.
6. Mohammed, Mohammed Badawi. “دراسة حول قوانين النظام العام السودانية”. Tamas, http://badawitamas.blogspot.com/p/blog-page_58.html Accessed 5 June 2021.
7. الطيب, عبد الله محمد. الرسم على الهامش. دارسيبويه للنشر، بيرمنغهام، بريطانيا، 2014.