الهجرة إلى الافتراضية: تأملات في التحولات الرقمية


أحمد عصام الدين

شهدت الشهور الماضية أحد أكبر موجات الهجرة، ربما منذ زمن الثورة الصناعية. أنا أشير الى الهجرة التي سببتها جائحة وباء كورونا، وليس الهجرة الى أوروبا والحدود الجنوبية للولايات المتحدة الأمريكية – تلك الهجرة من أرض الواقع الى العالم الرقمي الافتراضي. عندما بدأ الوباء، لجأ الملايين من الأشخاص وراء شاشاتهم للحفاظ على مناصبهم في النسيجين، الاجتماعي والمادي. أجساد صناعية ضخمة انتقلت الى المنصات الخاصة بالعالم الرقمي، حيث تمثل شاشاتهم وسيلة التواصل الوحيدة مع العالم الخارجي.
ومثل العديد من التخصصات والصناعات، اضطر عالم الفن وممثليه الى البحث عن مواقعهم في هذه الشبكات الرقمية الجديدة. لطالما كانت نظرة الفن الى التكنولوجيا نظرة نقدية، تظهر في العديد من مختلف الفئات الأدبية؛ مثل الخيال العلمي، وغيرها من خيالات عالم الواقع المرير والطوباوية، عندما تسيطر الآلات على العالم. مع ذلك، وبسبب تفاقم الوباء المستمر، كان من الصعب التغاضي عن البدائل التكنولوجية.
في البدء، أريد أن أناقش وضع المساحات الفنية وبعض المشاكل التي ظهرت حتى من قبل وباء كورونا المستجد. تحولت المتاحف الى ساحات قتال بين القيّمين المعاصرين، والطبيعة الأرشيفية للمتاحف الفنية. الناقد الفني بوريس غرويس يعلق على دور المتاحف التقليدية حيث يقول “الوظيفة الأساسية للفن كانت مقاومته لمرور الزمن. المتاحف الفنية العامة و المجموعات الفنية الضخمة الخاصة، صنعت من اجل اختيار بعض الأشياء – القطع الفنية – لأخذها بعيدَا عن الاستخدام العام والخاص، وبالتالي حمايتها من القوة المدمرة للوقت” (1). اكتسبت هذه القطع الفنية مكانة عالمية تمثل وتعبر عن التاريخ الإنساني، والتي تم إنشاؤها بواسطة السرد الخطي السائد لتاريخ الفن. من المفترض أن يكون اقتناء المتاحف الفنية للقطع شاملاً. ومع ذلك، غالبًا ما يمثل هذا الاقتناء نفسه في شكل متجر للقطع العتيقة تابع للدولة القومية ومصمم بنظرة أوروبية بحتة. قام القيّمون المعاصرون بتقديم أهداف ومناهج جديدة، منها أنهم بدأوا بتبادل القطع الفنية والتجارب المؤقتة، كما يقول غرويس، في محاولة ل” إعادة مزامنة مصير الجسد البشري مع النمط الذي يمثله تاريخيًّا – لضم واحتضان الهشاشة وعدم الاستقرار، بحدود وجودنا الماديّ” (2). يمكن لهذا الهدف أن يتحقق بتعريض المشروع الفني الى قوة الزمن المدمرة، بنفس الأسلوب المؤثر على الجسد البشري. قامت حركة الفن المعاصر بغزو المتاحف التقليدية في فترات زمنية قصيرة بشكل مشاريع تنظيم المعارض والتي تحدّت الاختيار التاريخي لقطع الآثار. نجاح هذه المشاريع لم يعني نهاية المتاحف، بل قد يجادل البعض بأن كل منهما غير في طبيعة الآخر عن طريق التنازلات والمفاوضات. خضعت القطع الأثرية للمتاحف لإعادة صياغة في سياقها من قبل القيّمين عليها، عملية قامت – في نهاية المطاف – إلى إعادة تشكيل المتاحف.

بالإضافة لذلك، شهد العقد الماضي تحولًا في طبيعة الأعمال الفنية مع التحول في التفاعل العام، وأيضًا إعادة تشكيل المتاحف والمعارض والذي أدّى الى تقديم بعض من أبرز الأمثلة على اندماج الفن والتكنولوجيا – الرقمية منها والحركية، أعمالًا تستكشف فضاء الإنترنت والوجود الرقمي. التكنولوجيا في مختلف أفلام الخيال العلمي والتي كانت أشبه بالخيال لما تثيره من دهشة في أذهان المشاهدين قبل بضعة عقود، اليوم تلك التكنولوجيا تشكل جزء من واقعنا الذي نعيش فيه. في هذه المرحلة من العصر القائم على الإبداع التكنولوجي، تعتبر اللوحات والمنحوتات التقليدية غير قادرة على التقاط وعكس الواقع على أكمل وجه، لذلك تعد البيانات والمعادلات الرياضية هي أدوات المصممين المعاصرين. وهكذا، أضافت تكنولوجيا المعلومات المزيد من الإمكانيات لتحقيق المشاريع الفنية، كما حسّنت من توثيقها وتوزيعها. لم ينف الفن الجديد القائم على التكنولوجيا دور الأنواع الأخرى من الفنون، ولكنه أضاف إلى المصفوفة الثقافية، بنفس الطريقة التي اتبع بها التصوير الرسم في التقاط الواقع، وبذلك رفع عبء التمثيل الواضح. أعطت تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز الفن إمكانيات جديدة للتعبير. ومع ذلك، طرحت تكنولوجيا المعلومات سؤالًا إنتاجيًا جديدًا: هل التكنولوجيا أداة للتمثيل الرقمي أم وسيلة فنية في حد ذاتها؟ غالبًا ما يتم وضع الفنان كصانع للمحتوى، والتقني يتم وضعه كفني. وعندما يندمج كلا الموقفان، فإنهما يفتحان المجال أمام استكشاف غير محدود.

تفتح الوسائط مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز أوضاعًا جديدة للعرض التقديمي بصورة تفاعلية. بدلاً من تكرار الواقع داخل الوسط، يمكن للمنسّقين إضافة تصاميم جريئة إلى نطاق معرفتهم.

بأخذ أحد الأمثلة من الماضي، ننظر إلى الرسم والتصوير. وكما قال دولوز: “مثل هذه الأنشطة تتنافس مع بعضها البعض، ولن يكون فن واحد مكتفيًا بتولي دور تخلى عنه فن آخر. من الصعب تخيل نشاط ما يتولى وظيفة تخلى عنها احد الفنون المتفوقة”. (3) يؤثر كل منهما على طبيعة الآخر، كما يتحمل كل منهما عبء الاستخدامات التقليدية. تظهر هذه الحالة بالذات في أعمال الفنان البريطاني فرانسيس بيكون في ثمانينيات القرن الماضي (4) وكذلك في النقش التجريبي للصور للفنان السوداني محمد عمر خليل. (5)

بالعودة إلى نقطة الالتقاء للمشاريع الفنية المعاصرة وفن تكنولوجيا المعلومات، نحتاج إلى التمييز بين التمثيل الرقمي والفن القائم على الكمبيوتر، على غرار كيفية أن التصوير الفوتوغرافي يستخدم في توثيق الرسم بينما في ذات الوقت يكون أيضًا ممارسة فنية في حد ذاته. في حالة التقنيات الجديدة، يمثل الواقع الافتراضي وسيطًا فنيًا وفي نفس الوقت مساحة للتمثيل الرقمي للأعمال الفنية الموجودة. لا تزال المشاريع الفنية المعاصرة تكافح من أجل إدراك أن تكرار الواقع وتجسيده بنفس هيئته داخل هذا الوسيط الجديد، يتجاهل الفرص المميزة المتوفرة بداخله. باختصار، إذا حاولنا السماح للاستكشاف الغير محدد بأن يبدو غير مقيد بحدود معرفتنا السابقة وأيديولوجيتنا، فلربما نستخلص المزيد من السعادة من هذا الاستكشاف. كيف يمكننا أن ندع تيار الوقت يتحرك ضمن هذه الوسائط الجديدة؟

بالنظر إلى التطور الجديد للتقنيات القائمة على المعلومات وظهور مفردات جديدة مثل متحف الإنترنت، المعرض الافتراضي و أداء البث المباشر، قد يتساءل البعض عما إذا كانت تجربة العمل الفني في هذه المساحات الجديدة تدرك طبيعتها المادية. على الأرجح، لم يحدث ذلك، لكن وقبل جائحة وباء كورونا، الأعمال الفنية في المعارض أيضًا لم تفعل ذلك. قال والتر بنجامين في مقالته عام 1934 “عمل الفن في عصر الاستنساخ الميكانيكي”: “يفتقر حتى الاستنساخ الأكثر كمالًا للعمل الفني إلى عنصر واحد: وجوده في الزمان والمكان، وجوده المنفرد بنوعه في المكان الذي يحدث فيه. هذا الوجود للعمل الفني حدد التاريخ الذي كان خاضعًا له طوال فترة وجوده. وهذا يشمل التغييرات التي قد يكون عانى منها في الحالة المادية على مر السنين بالإضافة إلى التغييرات المختلفة في ملكيته”. (6) وبالتالي، يمكننا اعتبار العمل الفني في عصر الاستنساخ الرقمي نسخة أخرى، طبق الأصل. يفتقر نسخ العمل الفني الفعلي إلى وجوده في الزمان والمكان، ويأخذ شكلاً مختلفًا عن الاستنساخ الميكانيكي التقليدي للعمل. له شكل آخر من الهالة (6).
الجزء الآخر هو التشكيك في البنية التحتية للإنترنت كمساحة لتقديم هذه النسخ المتماثلة. هل هي مساحة خاصة أم عامة؟ هل هي عالمية ومتنوعة كما يدّعى؟ من المؤكد أن الإنترنت هو مساحة خاصة مثل كل الأماكن الأخرى من قبل؛ المتاحف كمساحات مملوكة للدولة أو معارض خاصة، أو بيناليات ترعاها صناعات الأسلحة أو مهرجانات تمولها جهات كبيرة. يمثل الإنترنت فضاءًا خارجيًا، ليس فقط من خلال توفير منصة لكل من المساحات الخاصة والمملوكة للدولة، ولكن أيضًا من خلال الاستفادة من الإجراءات والتفاعلات الشخصية داخل بنيته. وبالتالي، فإن الغرفة التي تم إنشاؤها على الإنترنت ستحقق دائمًا أرباحًا (7)، ويضطر المستخدمون إلى التضحية بخصوصياتهم لتجربة الفن. بالإضافة إلى ذلك، يتم تشتيت انتباه المستخدمين عن طريق الإعلانات المخصصة والموجهة، و التي ليست تحت سيطرة المنسق. ومع ذلك، فإن هذا الفضاء الخاص سمح أيضًا لوعي مختلف أن يتواجد بالتوازي، ويتشارك في نفس التجربة على الرغم من وجودها في معايير جغرافية مختلفة.

بشكل قاطع، تقدم التكنولوجيا دائمًا حلولًا جديدة، لكنها تخدم علاقات القوى والأيديولوجيات الحالية. مكننا الوباء المستمر من إجراء تجربة توضح لنا بعضًا من عوالم ما بعد-ما بعد الحداثة التي سنعيشها مستقبلًا. ما نسميه هذه الأيام بدائل، من المحتمل أن يكون دائمًا. لذلك، نحتاج إلى بعض التفكير النقدي في الأدوات التي نعتبرها في الوقت الحالي مجرد بدائل، ونقوم بالتحقيق في علاقات القوى هذه في أضعف لحظاتها، وقت التحول.

ملاحظات النهاية:
(1)(2)” Entering the Flow: Museum between Archive and Gesamtkunstwerk” essay by Boris Groys 2013
(3) “The Work of Art in the Age of Mechanical Reproduction” by Walter Benjamin essay 1934
(4)” Francis Bacon: The Logic of Sensation” Book by Gilles Deleuze 1981, 8
(5) Francis Bacon, Photographer / Painter, 1980.
(6) Mohamed Omer Khalil – Echos2 1982
(7) “The Age of Surveillance Capitalism” Book by Shoshana Zuboff 2019, 120