أن تكون في ألمانيا الآن


موسى أكوونقا

أن تكون في ألمانيا الآن، هو بمثابة وجودك في مجتمع عالق بين موجات التقدم والتراجع. وصلت إلى برلين في العام 2014م، قبل وقت قصير من استقبال البلاد لحوالي مليون لاجئ سوري، فروا من الصراع في وطنهم عبر حدودها. سرعان ما أدى فعل التعاطف هذا – المذهل نظرًا إلى السياق المحيط به، حيث طالب السياسيون في جميع أنحاء أوروبا وداخل ألمانيا بسن عقوبات شديدة ضد أي شخص يسعى إلى حياة أفضل في الخارج – إلى رد فعل عنيف. شهدت نهاية عام 2015م وبداية عام 2016م انفجارًا غائمًا للقومية البيضاء عبر القارة وخارجها. جاءت هذه التداعيات في صور مختلفة، بما في ذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، بالإضافة إلى صعود حزب البديل اليميني المتطرف إلى البرلمان الألماني.

كان لهذه النتائج تداعيات شخصية خطيرة. في فترة امتدت لستة أشهر من منتصف إلى أواخر عام 2017م، تعرضت أنا والعديد من الأشخاص ذوي البشرة السوداء في دائرتي الاجتماعية للأذى والعنف بصورة عنصرية بحتة والتي وصلت إلى ارتفاعات جديدة مذهلة بشكل مرعب. أُجبرت إحدى صديقاتي على الانتقال من منزلها، بسبب تعاطف جارها المباشر مع النازيين الجدد. تعرض أحدهم للضرب في الشارع من قبل سائق سيارة الأجرة أثناء نظر المارة بدون أي تدخل منهم. قامت امرأة بيضاء مسنّة بدفع صديقة أخرى من دراجتها إلى الطريق. أصيب ابن أحد الأصدقاء بكسر في الجمجمة بعد تعرضه لهجوم من قبل أربعة شبان ينتمون إلى اليمين المتطرف. أجرينا العديد من المحادثات المتكررة حول ما إذا كانت هذه الدولة لا تزال آمنة بالنسبة إلينا، ومع الأسف، كانت الإجابة هي لا.

ثم تغيرت الأمور. هذا الانحدار أفسح المجال للتقدم. على الرغم من أن المستشارة ميركل قد تتعرض لانتقادات بسبب العديد من الأشياء، إلا أنه ينسب لها الفضل في ما قامت به مؤخرًا من رفضها – على غرار كثيرين آخرين من حزبها – لوضع وصمة على الأشخاص ذوي الأصول الأجنبية. يرافق هذا الرفض ثلاث احتجاجات ضخمة في الشوارع، نظمت لمعارضة اليمين المتطرف؛ اثنان منها في برلين وواحدة في كيمنتس، بالإضافة لصعود وإحياء الحزب الأخضر الألماني كقوة سياسية قابلة للحياة. في عام 2018م، انتشرت أنباء عن أن مجموعة من الجنود الألمان والذين ينتمون إلى اليمين المتطرف، بأنهم يخططون للإطاحة بحكومتهم، وبعد مرور عام، تم إعدام والتر لوبكي، وهو سياسي مؤيد للاجئين، على يد متطرف من النازيين الجدد في حديقته الخاصة. بالطبع، لم يشهد عام 2020م انفجار جائحة الوباء العالمي فحسب، بل شهد أيضًا انفجار الاحتجاجات العالمية حيث أصبحت حركة “حياة السود مهمة” Black Lives Matter)) عالميةً حقًا. الآن، ومع هزيمة جو بايدن بفارق ضئيل لترامب في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر)، نحن في وقت ليس من الواضح فيه ما إذا كانت الموجة المقبلة ستأخذنا إلى الأمام أم إلى الوراء.

خلال هذه السنوات الست، أعتقد بأنني قد شهدت ظهور فن جديد. واعتقادي هذا سببه أن كل فنان تعرفت عليه جيدًا في هذه المدينة وفي هذا البلد، يبدو وكأنه استمد وقودًا إبداعيًا من شدة هذه اللحظة، وقد طوّر عملهم قوة مذهلة كنوع من الاستجابة للتحديات التي نقوم بمواجهتها. عندما وصلت إلى برلين، كان الفن أكثر شاعرية وترددًا. كانت هناك مقالات طويلة مليئة بالعاطفة والإيقاعية عن وحشية الشرطة، وكانت هناك مناشدات رحيمة لفهم محنة ومعاناة اللاجئين. بعد ست سنوات، تغير المشهد الفني، مثل زملائهم المحتجين في الشوارع، سئم الفنانون من المطالبة بالإنسانية من أولئك الذين يفخرون بعدم إنسانيتهم المستمرة. لقد فهموا أنه لا يوجد شيء كريم في التوسل طلبًا للكرامة ذاتها. هذا الفن الجديد لا يطلب الإذن في بحثه عن التحرير.

لربما كان الفن القديم – فن الست سنوات الماضية – أكثر لطفًا، ولكن في تلك اللحظة لم يكن ذلك شيئًا سيئًا. هذا الفن القديم يفترض أن الأشخاص الذين صوتوا للأحزاب الفاشية كانوا مضللين، وأنهم قد خدعوا إلى حد كبير من قبل الممثلين والمتحدثين الماكرين، ولذا فقد تم تأطيرها إلى حد كبير من حيث مد اليد ومحاولة رسم صورة للصالح الجماعي. لكن الدعم الغير مخجل والمتجدد لترامب، قد أزال معظم محاولات المصالحة. نتيجة لذلك، بدأت أرى نوعًا مختلفًا من الفن. نوعًا أكثر صرامة، أكثر قوة، أكثر مرونة، أكثر وحشية، غير قسري، وأكثر واقعية. لقد رأيت الفن أكثر مرارة وأكثر تفاؤلاً من ذي قبل، وفي جميع الحالات الفن الذي رأيته هو الأفضل، لأنه غير مقيّد. لقد رأيت عددًا أقل من القصائد، لربما بسبب أن الظلم لا يمنحنا الوقت الكافي لتشكيل القافية.

إذا كان علي أن أعطي اسمًا للفن الجديد، فسأطلق عليه : “فن الضعف الأصولي”. ما أعنيه بالضعف الأصولي أو الجذري هو أننا لا نخشى أن نظهر لك ندوبنا. نحن مرتاحون تمامًا لعرض جروحنا. نحن لا نخجل من النزيف في الأماكن العامة ولا نفعل ذلك من أجلك، فنحن ننزف أمامك لأننا سنشفى أينما شئنا، سواء أكان ذلك محاطًا بالخصوصية أو أمام عينيك. لأننا تحملنا آلام العنصرية لفترة طويلة، ولم يعد من واجبنا أن نحملها، لذلك سنترك كل ذلك هنا عند قدميك، ونتجاوزه.

يحتفظ الفن الجديد بحرفية الفن القديم العالية، ولكنه ينفجر بإلحاح مذهل من الفم، الصفحة واللوحة القماشية على حد سواء. شوهد أحد أقوى مظاهره في مقال كتبته الروائية والمنتج التلفزيوني المقيم في برلين جينيفر نيل في ذروة احتجاجات Black Lives Matter هذا الصيف. كتبت لـ The Cut، “أريدنا أن نتخيل حياة نتحدث فيها عن العرق وفقًا لشروطنا، بطريقة تشعرنا بالقوة بدلاً من الإرهاق. أريد أن نتخيل أنفسنا كنساء مسنات وسعيدات محاطات بأحفاد لا يمكننا مواكبتهم – نحاول إبقاء الأوراق بعيدة عن أفواههم. وأريد أن نضع أنفسنا أولاً، بينما يبدأ الجميع في اللحاق بنا”.

الفن الجديد يجعل الجميع يلعبون المطاردة. يعيش الفن الجديد في المستقبل، فهو يرفض عبء تثقيف أولئك الذين لا يرغبون بالاستماع، ويفعل الشيء الثوري المتمثل في التخلص من آلامه، والتحليق عاليًا. قد يندب في بعض الأحيان، وأحيانًا أخرى قد يحتفل، لكنه يتحرك دائمًا إلى الأمام. يتم صنع الفن الجديد من قبل كتّاب مثل نيل، والذين قبل أن يضغطوا أقلامهم على الورقة، يغمسونها أولاً في أرواحهم ثم في بركة من اللهيب. لا يسعى الفن الجديد إلى الوحدة مع أولئك الذين يستمتعون بالإذلال اليومي للفئات الأكثر تهميشًا في المجتمع، مع أولئك الذين يرقصون على حوافر الفاشية البعيدة والمبعثرة. عند الضرورة، يحدد الفن الجديد ويعرّف الانقسام، بين أولئك الذين يمكن إقناعهم بالاهتمام بعالم أكثر لطفًا، وأولئك الذين لا يستطيعون. يتم إنتاج الفن الجديد هنا في برلين بألمانيا وخارجها من قبل أشخاص مثل نيل ، مايوا لينيت، بابيش بابايا، آزادي توندا، جيسيكا لورين إليزابيث تايلور، شارون دودوا أوتو، بوليانا بومغارتن، كانديس نيمبارد، شانون لويس، إلينا بارشازكي، أليسأليس هاستيرز، سوجا سوبهاغر، جوموكي أديانجو وغيرهم الكثير. إنهم يعيشون ويصنعون الفن الجديد، فن الضعف الأصولي الجذري، وأريد أن أعيش وأصنع الفن الجديد طوال حياتي. كلما فكرت في مدى رغبة اليمين المتطرف في القلوب المغلقة والعقول المنغلقة والحدود المغلقة، كلما زاد اعتقادي بأن الاندفاع نحو التقدم يعتمد عليه.